تونس- في الهزيع الأخير من ليل الجمعة إلى السبت، أسدلت المحكمة الابتدائية بتونس الستار على المشهد الأول لواحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل، بإصدارها أحكاما ابتدائية ثقيلة تراوحت بين 13 و66 عاما سجنا ضد عشرات المعارضين السياسيين فيما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة.
وسلطت المحكمة على سبيل المثال عقوبات بالسجن على رجل الأعمال كمال اللطيف وصلت إلى 66 عاما، والناشط السياسي خيام التركي بـ48 عاما والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي والقياديين بجبهة الخلاص المعارضة رضا بالحاج وشيماء عيسى وجوهر مبارك بـ 18 سنة سجنا.
وقد قوبلت هذه الأحكام برفض واسع من المحامين وعائلات المعتقلين السياسيين والأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية، واعتبرتها أحكاما جائرة ناتجة عن محاكمات سياسية وتهم باطلة لتصفية خصوم الرئيس قيس سعيد.
وقد تنوّعت أوضاع المتهمين بين موقوفين ومطلوبين وآخرين بحالة سراح، لكن القاسم المشترك بينهم هو انتماؤهم للمعارضة السياسية ضد الرئيس التونسي بعد اتخاذه تدابير استثنائية حكم بموجبها بصلاحيات مطلقة منذ 25 يوليو/تموز 2021.
وشملت لائحة المتهمين شخصيات بارزة من المعارضة، بينهم قائد جبهة الخلاص نجيب الشابي، وغازي الشواشي الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي، إلى جانب ناشطين آخرين ورجال أعمال وغيرهم.
إعلان
وبدأت القضية قبل أكثر من عامين ووُجهت للمتابعين فيها تهم ثقيلة على غرار التآمر على أمن الدولة والتخابر مع جهات داخلية وخارجية، وتكوين تنظيم إرهابي.
وحركت السلطات التونسية القضية إثر حملة مداهمات واعتقالات واسعة بناء على رواية مخبرين اثنين سريين لم يكشف قرار ختم البحث لقاضي التحقيق عن هويتهما.
وجرت المحاكمة في جلسات عن بُعد، وسط انتقادات حادة للطابع الاستثنائي والإجراءات المعتمدة، في ظل اعتماد قانون الإرهاب والمجلة الجزائية كأساس للمحاكمة.
تصفية المعارضة
وفي تعليقه على المحاكمة قال قائد جبهة الخلاص نجيب الشابي -وهو أحد المتهمين في القضية بحالة سراح- إن الأحكام الصادرة لم تكن مفاجئة وإنها أشبه بـ”بيان سياسي بأروقة المحاكم يستهدف تصفية المعارضة وقطع آخر أنفاس الحرية في البلاد”.
وأكد الشابي للجزيرة أن القضاء في فترة حكم الرئيس سعيد فقد استقلاليته وأصبح “قضاء خائفا وخاضعا لسلطته وعصا غليظة يحاكم بها خصومه السياسيين”، مضيفا “كنا نعلم أن نهاية هذه المحاكمة ستكون بأحكام جاهزة، كتبت في مكاتب السياسة لا في قاعات القضاء، والهدف منها ليس تحقيق العدالة، بل دفنها، وتكميم أفواه المعارضين، وبث الرعب في نفوس كل من يجرؤ على نقد السلطة”.
ويشدد الشابي على أن هذه القضية لا تحتوي على أي دليل مادي يجرّم المتهمين، قائلا “لا وثائق، لا تسجيلات، لا وقائع ملموسة، بل تُهم فضفاضة واعتمدت على شهادات سرية، وإجراءات مشبوهة، أُريد بها صناعة مؤامرة من فراغ. إنها مجرد رواية مفبركة حبكتها السلطة لتبرير الانتقام السياسي، وخلق عدو وهمي تصب عليه فشلها السياسي والاجتماعي”.
قضية مفتعلة
وتعقيبا على الأحكام، قال القيادي بحركة النهضة رياض الشعيبي الذي يحاكم في هذه القضية إن “القضية سياسية بحتة والإجراءات القضائية ليست سوى تعلة لتمرير أحكام قاسية معدة سلفا في ملف سياسي مفبرك يعتمد على شهود سريين ووقائع خيالية”.
إعلان
وأضاف الشعيبي للجزيرة نت أن “هذا الملف القضائي برمته لا يقوم على أدلة أو أفعال مادية، بل على اتهامات سياسية صيغت لشرعنة محاكمة معارضين وإخراس صوتهم وترهيب المجتمع ككل، في ظل مسار قضائي خاضع للسلطة ويفتقر إلى أبسط ضمانات المحاكمة العلنية والعادلة، في إشارة إلى رفض المحكمة لإحضار المتهمين للجلسة من سجونهم”.
وأضاف الشعيبي أن القضية “لا تعدو أن تكون واجهة قانونية لأجندة سياسية مبيتة، وأن الأحكام القاسية الصادرة تعكس خطاب الرئيس قيس سعيد القائم على التجريم والتخوين، بدل الحوار والانفتاح”.
واعتبر أن المحاكمة “وصمة عار في جبين السلطة وفضيحة قضائية بكل المعايير شابتها خروقات فادحة، من استبعاد الصحفيين ومنع للمتهمين من المثول أمام المحكمة إلى الاعتماد على شهود سريين ووقائع لا سند لها، مما يجعل من هذه المحاكمة حلقة جديدة في مسلسل استهداف الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد”.
أحكام جائرة
بدورها، اعتبرت منية إبراهيم، زوجة القيادي السابق بحركة النهضة والمعتقل السياسي عبد الحميد الجلاصي، أن الأحكام الصادرة “ثقيلة وجائرة”، صدرت عن قضاء “يعمل تحت وصاية السلطة التنفيذية”.
وقالت للجزيرة نت “هذه الأحكام معدة وجاهزة سلفا ونابعة من القرارات السياسية التي لا علاقة لها بالعدالة”، مضيفة أن “هذه الأحكام لم تفاجئ عائلات المعتقلين، لأن الجميع يدرك مسبقا أنها ملفات مفبركة، أُعدّت لتصفية الخصوم وتخويف كل من يجرؤ على نقد نظام قيس سعيد”.
وشدّدت منية إبراهيم على أن ما جرى داخل قاعة المحكمة لم يكن سوى “مسرحية عبثية وفضيحة قضائية”، مشيرة إلى أن القاضي خلال الجلسة الثالثة للمحاكمة التي جرت أمس الجمعة استغرق 3 دقائق فقط لتلاوة قرار ختم البحث المتكون من 144 صفحة، ثم قام بسرعة البرق برفع الجلسة لإصدار الأحكام القاسية دون سماع أقوال المتهمين الذين شارك اثنان منهم من بعد أو سماع أقوال المتهمين الذين حضروا الجلسة وكانوا بحالة سراح في “خرق سافر للقانون”.
إعلان
وأشارت إلى أن “القضية انطلقت بملاحظة مقتضبة دوّنها مدير عام الشرطة العدلية -وهو نفسه موقوف في قضايا فساد ــ وصولاً إلى جلسة المحاكمة التي لم تستغرق سوى دقائق حيث تم تجاهل المطالب الأساسية لهيئة الدفاع لإحضار المتهمين واستنطاقهم وفق القانون”، متسائلة “أليس هذا ظلما قضائيا واستبدادا مسلطا على المعارضين من قبل السلطة؟”.
تحركات نضالية قادمة
وأكدت منية إبراهيم أن القضية تعبّر عن تحول خطير في أداء الدولة، التي باتت تستعمل القضاء كأداة لتفكيك المعارضة وترهيب المجتمع، مشيرة إلى أن هذه المحاكمة سابقة خطيرة في تاريخ القضاء التونسي. وقالت إن عائلات المعتقلين السياسيين، ومعهم هيئة الدفاع، بصدد تقييم الخطوات المقبلة.
من جانبه، قال الناشط السياسي بلقاسم حسن للجزيرة نت إن الأحكام الصادرة ابتدائيا ضد المتابعين في قضية التآمر على أمن الدولة “جائرة وجاهزة مسبقا ومبنية على تهم باطلة ملفقة من نظام الرئيس سعيد ولم ترتكز على براهين”.
وأوضح حسن أن مسار الدفاع عن المساجين السياسيين سيتواصل عبر مسارين متكاملين أحدهما قانوني عبر الطعن لدى محكمة الاستئناف والآخر نضالي يتمثل في الوقفات الاحتجاجية وتكثيف الضغط الدولي لفضح ما يجري من محاكمات سياسية.