يرى بنيامين نتنياهو في العلاقة مع الولايات المتحدة أساسًا لوجود إسرائيل، لكنها اليوم تُظهر وجهها الحقيقي: صفقة مصلحية باردة تحكمها التوترات والخداع المتبادل.
فرغم تصاعد الحرب في غزة وتزايد الضغوط الدولية، تُبدي إدارة دونالد ترامب دعمًا واضحًا لإسرائيل، لكنه مشروط بلغة دبلوماسية دقيقة. في المقابل، يوظف نتنياهو هذا الدعم لتعزيز موقفه السياسي داخليًا، متجاوزًا القيود الأميركية عبر قنوات غير رسمية.
التحالف الذي وُصف يومًا بـ”الأبدي” بات أشبه بحبل مشدود فوق هاوية سياسية وأخلاقية. نتنياهو يراهن على ترامب للبقاء في الحكم، بينما يحسب ترامب خطواته بعناية لتجنّب اندلاع حرب إقليمية غير محسوبة. السؤال الآن: كيف انتقل هذا التحالف من شراكة أيديولوجية إلى سوق مفتوح للمصالح؟ وما حدود هذا الدعم وسط أزمات نتنياهو المتعددة؟
من تحالف الأيديولوجيا إلى مناورة المصالح
قدّم نتنياهو نفسه دائمًا كأقرب الحلفاء لواشنطن، لكنه لم يتردّد في معارضة إداراتها حين تعارضت مصالحه معها. خطابه الشهير أمام الكونغرس عام 2015 ضد الاتفاق النووي مع إيران كان تحديًا صريحًا، أكد أن أولوياته تنبع من أجندته الخاصة، لا من توافق إستراتيجي عميق.
وبالمقابل في ولايته الأولى، وفّر له ترامب دعمًا نادرًا: نقل السفارة إلى القدس، والخروج من الاتفاق النووي، واتفاقيات تطبيع عززت صورته كقائد “صنع التاريخ”.
إعلان
ولكن ما بدا حينها تحالفًا استثنائيًا، يكشف اليوم عن هشاشته. في عام 2025، لم يعد ترامب يمنح دعمه دون شروط، بل بات الدعم تكتيكيًا ومحسوبًا، أقرب إلى عقد مؤقت من كونه شراكة راسخة.
صحيفة هآرتس اختزلت الموقف في تحليل لاذع: “إسرائيل لم تعد الحليف المدلل، بل أصبحت شريكًا مزعجًا ينبغي احتواؤه”. هذا التوصيف لا يعكس فقط تغيرًا في المزاج الأميركي، بل يُظهر انقلابًا في موازين القوة: من دولة تتلقى التفويض، إلى زعيم يُراقب من خلف الزجاج.
يستمرّ ترامب في دعم إسرائيل، مدفوعًا بعوامل داخلية وخارجية. داخليًا، يعتمد على قاعدته الإنجيلية التي ترى في إسرائيل تجسيدًا دينيًا وسياسيًا.
أما خارجيًا، فيهدف إلى الحفاظ على صورة الردع الأميركي في المنطقة واحتواء نفوذ إيران، لا سيما في ظلّ تراجع التدخل العسكري الأميركي في الساحات الإقليمية. لكنه، وعلى عكس ولايته الأولى، بات أكثر حذرًا.
التصعيد في غزة أو سوريا قد يُدخل واشنطن في مواجهة مفتوحة لا تصبّ في مصلحته الإستراتيجية، ولا في ميزان الاقتصاد الأميركي المتأرجح. ولهذا، تأتي بياناته بلغة مزدوجة: تصريح الخارجية الأميركية في 6 مايو/ أيار حول العمليات في رفح دعا إسرائيل إلى “احترام القانون الدولي والتمييز بين الأهداف”، وهي جملة تُقرأ على أنها تحذير دبلوماسي مغطى بكلمات مجاملة.
في الظاهر، لا تزال إسرائيل مدعومة، لكن في العمق، بدأت واشنطن تضع حدودًا لما يمكن التسامح معه.
كيف حاول نتنياهو التحايل على واشنطن؟
ومع تآكل الثقة بين الطرفين، عاد نتنياهو إلى أساليبه القديمة: التأثير غير المباشر عبر الدوائر المقربة من الإدارة، دون المرور بالقنوات الرسمية.
من أبرز تلك المحاولات، علاقته بمايكل والتز، مستشار الأمن القومي السابق الذي كان يُعرف بـ”صوت إسرائيل” داخل البيت الأبيض. تسريبات Axios كشفت أن نتنياهو أرسل إليه تحليلات مباشرة حول الوضع الإيراني، وكذلك حول الحالة الميدانية في القطاع، متجاوزًا الإدارة الأميركية.
إعلان
الهدف كان الضغط من خلف الكواليس لتعديل موقف واشنطن، لكن إقالة والتز في وقت لاحق أنهت تلك القناة الحيوية، وأظهرت أن واشنطن بدأت تُغلق أبواب التأثير غير المشروع.
هذه الخطوات تُظهر ليس فقط هشاشة موقف نتنياهو، بل أيضًا أسلوبه السياسي المعتمد على الالتفاف والمراوغة، ولو على حساب الأعراف الدبلوماسية التي طالما تغنّى بها.
دعم مستمر، لكن دون تفويض مطلق
الدعم الأميركي مستمر، لكنه تغير في جوهره. صحيح أن الطائرات والسلاح والمواقف العلنية ما زالت تُرسل إلى إسرائيل، لكن الفيتو الأميركي لم يعد حاضرًا بنفس الحزم في مجلس الأمن، كما لم تبذل إدارة ترامب جهدًا كبيرًا لإجهاض مشروع القرار الأممي الداعي لوقف إطلاق النار.
في الوقت ذاته، تُعبّر واشنطن عن فتور واضح تجاه العمليات البرية في رفح، بل وتُسرب امتعاضها بطرق محسوبة.
مجلة “فورين أفيرز” وصفت الحالة بكلمات لا تحتمل اللبس:
“الولايات المتحدة لا تزال تدعم إسرائيل، لكنها سئمت من نتنياهو”.
هذا الموقف يضع نتنياهو أمام معضلة غير مسبوقة: الدعم موجود، لكنه لا يكفي لنصر واضح، ولا يمنع الانهيار الداخلي.
قلق داخلي في إسرائيل: عندما تصبح واشنطن مرآةً لفشل القيادة
تزداد المعادلة تعقيدًا حين ننظر إلى الداخل الإسرائيلي، حيث تُتابع النخب السياسية هذه العلاقة بقلق واضح. أحزاب الوسط واليسار ترى في تراجع الحماس الأميركي فرصة لتقييد نتنياهو، بينما يتخوف اليمين من أن يفقد الغطاء الأميركي في لحظة حرجة. الانقسام داخل معسكره ذاته واضح: جزء يريد كسر التبعية لأميركا، وجزء يرى أن ترامب هو الحصن الأخير.
استطلاع معهد “متفيم” (أبريل/ نيسان 2025) أظهر أن 62% من الإسرائيليين يعتقدون أن علاقة نتنياهو المتوترة بواشنطن تضر بصورة إسرائيل عالميًا. هذا لا يعكس فقط أزمة دبلوماسية، بل انكشافًا داخليًا لرجل يستند إلى تحالف هشّ لتبرير استمراره.
بيبي على الحافة: مناورة البقاء بين التصعيد والاسترضاء
نتنياهو يعرف أن شرعيته مرتبطة بإحداث تغيير محسوس، قبل أن يفقد الغطاء الأميركي الترامبي المحتمل، أو قبل أن يتفكك الائتلاف عند أول تنازل.
إعلان
هو يراهن على “انتصار محسوب” قبل أكتوبر/ تشرين الأول. لكن الزمن يعمل ضده، فهو يعرف أن دفع العلاقة مع واشنطن إلى نقطة اللاعودة سيعني: احتمال توقّف الإمداد العسكري، أو على الأقل التلويح به، تراجع الثقة العالمية في “الردع الأميركي” لإسرائيل وتسارع انفكاك الدول العربية المطبّعة، التي تعتمد على الغطاء الأميركي كضامن لتوازناتها.
في ظل هذا المشهد، يصبح نتنياهو كمن يتمسّك بحبل أميركي يشدّه من الجهتين. لا يستطيع تركه لأنه ضمانته الوحيدة للبقاء، لكنه لا يريد أن يخضع لقيوده، لأن تلك القيود تهدد بسقوطه. لهذا، يلجأ إلى سياسة المراوحة: تصعيد محسوب لكسب شعبية، وتهدئة مدروسة لامتصاص الضغوط الأميركية.
إنها إستراتيجية البقاء على الحافة: لا انتصار يُحسم، ولا هزيمة يُعترف بها. وبين التصعيد والمراوغة، يدفع الجميع الثمن: الفلسطينيون أولًا، لكن أيضًا المؤسسة الإسرائيلية التي تفقد ما تبقى من ثقة العالم بها.
وفي الختام، نتنياهو الحليف الذي لا يُوثق به
لم تعد علاقة نتنياهو بواشنطن قائمة على قيم مشتركة أو مصير موحّد، بل تحولت إلى صفقة يومية تُدار وفق حسابات تكتيكية دقيقة. إدارة ترامب تُبقي على الغطاء الدبلوماسي لإسرائيل، لكنها لا تُخفي فقدانها للثقة بنتنياهو. أما هو، فلا يكفّ عن التلويح بالتحالف، بينما يناور من خلف الكواليس.
قد يتمكن من تجاوز أزمة غزة مؤقتًا، لكنه يترك وراءه علاقة مضطربة مع البيت الأبيض، وسمعة دولية متدهورة، وشعبًا إسرائيليًا يزداد تململًا من حروبه ومراوغاته.
في ولاية ترامب الثانية، لا مكان للصداقة الدائمة، بل للمصالح المتغيرة حسب التوقيت. أما نتنياهو، هذا الحليف المربك، فيدرك جيدًا أن الحبل الأميركي الذي يستند إليه، قد يتحول في أية لحظة إلى مشنقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.