باريس- أحدثت جريمة القتل التي راح ضحيتها الشاب المالي أبو بكر سيسيه، يوم الجمعة، في مسجد خديجة الواقع ببلدة “لاغراند كومب” الصغيرة التي يقل عدد سكانها عن 5 آلاف نسمة، في منطقة غارد، موجة من ردود الفعل السياسية التي لم تتوقف بسبب فظاعتها وتداعياتها السياسية والاجتماعية.
ووفقا للشهادات التي جمعت، يبلغ أبو بكر من العمر 23 عاما وكان معروفا وذا سمعة جيدة لدى السكان المحليين منذ سنوات. وفي صباح الجمعة، ذهب كعادته إلى المسجد لتنظيفه قبل قدوم المصلين قبل أن يفاجأ بهجوم المشتبه به أوليفييه هـ، وطعنه من 40 إلى 50 طعنة تحت أعين كاميرات المراقبة.
وقد أعلن عبد الكريم غريني، المدعي العام في مدينة أليس الجنوبية، اعتقال المشتبه به أوليفييه هـ في مركز للشرطة في بيستويا بإيطاليا، وهو فرنسي في العشرينيات من عمره، وُلد في مدينة ليون لعائلة من أصل بوسني. وأكدت مصادر الشرطة أنه ليس مسلما.

دقيقة صمت
وحدادا على أبي بكر سيسيه، تم الوقوف دقيقة صمت بساحة الجمهورية في العاصمة الفرنسية باريس مساء أمس الأحد، بدعوة من حزب “فرنسا الأبية” اليساري والحزب الشيوعي الفرنسي والخضر على وسائل التواصل الاجتماعي.
وخلال المظاهرة، قال زعيم الحزب اليساري جان لوك ميلانشون “لقد تمت تنمية مناخ معاد للإسلام. وعلى مدى أشهر، شعر الكثير، حتى أكثر المسؤولين، بأنه يمكنهم الإدلاء بتصريحات لم يقيسوا أثرها وعنفها بشكل صحيح على أولئك الذين اضطروا إلى تحملها…”.
وتساءل ميلانشون: “عندما قال وزير الداخلية في اجتماع (يوم 27 مارس/آذار، خلال مظاهرة ضد الإسلام السياسي): يسقط الحجاب، هل يمكننا أن نتخيل أن أحدهم صاح: يسقط الصلبان؟”، معتبرا أنه مع استمرار هذا الجو “لا ينبغي توقع شيء آخر سوى أن تجد العقول المضطربة مبررا لأفعالها”.
إعلان
وفي سياق متصل، أشار النائب عن حزب “فرنسا الأبية” جيروم لوغافر إلى تنظيم مظاهرة أخرى في شهر مايو/أيار المقبل للتأكيد على رفض تقسيم الناس على أساس أصولهم العرقية أو انتماءاتهم أو هويتهم الدينية والاجتماعية.
وأضاف لوغافر، في حديث للجزيرة نت، أن “تصريحات السياسيين وما نشاهده في القنوات الإخبارية المحلية تستهدف جزءا من سكان فرنسا، وتستهدف بشكل خاص الفرنسيين من أصل عربي أفريقي. وأنا ألوم كل هؤلاء الذين يغذون هذا المناخ الخطير والمثير للاشمئزاز”.
إسلاموفوبيا أم عمل معادٍ؟
وفي كل مرة تتعرض لها الجالية المسلمة لجرائم مشابهة، يثير اختيار المصطلحات جدلا كبيرا بين المسؤولين المنتخبين. فعند سؤال وزير أقاليم وراء البحار مانويل فالس عن الجريمة في محطة إذاعة “آر تي إل”، قال إنها “عمل من أعمال الكراهية ضد الإسلام”.
وأضاف فالس “لا أتحدث أبدا عن الإسلاموفوبيا.. هذا المصطلح الذي اخترعه الملالي بإيران قبل أكثر من 30 عاما لتشويه سمعة بعض المنتقدين”.
عقب مقتل مصلّ طعنا في مسجد جنوبي #فرنسا.. ماكرون يؤكد: العنصرية والكراهية القائمة على الدين لن يكون لهما مكان في بلادنا pic.twitter.com/6i5nLnwZPK
— قناة الجزيرة (@AJArabic) April 28, 2025
من جانبه، نشر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تغريدة على منصة “إكس”، قال فيها إن “العنصرية والكراهية القائمة على الدين لن يكون لهما مكان في فرنسا”، مؤكدا أن “حرية العبادة مصونة”.
وتحدث السكرتير الأول للحزب الاشتراكي أوليفييه فور عن “عمل عنصري” في سياق “الخطابات التي تصف الأجانب والمهاجرين والمسلمين بأنهم أعداء” والتي “تدعم أذرع العنصريين وتضفي الشرعية على أفعالهم”.
وعلى غير عادته، انتظر وزير الداخلية برونو ريتيلو مرور أكثر من 48 ساعة لزيارة منطقة غارد والتعليق من هناك على الحادثة التي هزت البلاد. وعلى الرغم من تأكيد تضامن الحكومة الكامل مع الجالية المسلمة الفرنسية، اختار عدم استخدام مصطلح “الإسلاموفوبيا” واكتفى بوصف الجريمة “بالعمل المعادي للمسلمين”.
إعلان
ومن وجهة نظر النائب الفرنسي لوغافر، فإنه على الرغم من اختلاف المصطلحات التي تستخدم اليوم، يظل الإسلام “مجرد ذريعة” لتقديم شكل ممنهج لزيادة الخوف من هذه الديانة، مشيرا إلى وجود عنصرية واضحة ضد العرب والسود.
ضبط النفس
وخلال مظاهرة باريس أمس الأحد، طالب ريتشي تيبو المساعد البرلماني للمنتخبة عن منطقة سين إيه مارن، إرسيليا سوديس، بإنشاء “ألوية دفاع ذاتي شعبية في أنحاء فرنسا للدفاع ضد الإسلاموفوبيا”.
كما اتهم تيبو بعض القنوات المحلية ذات الهوى اليميني وجميع أعضاء اليمين المتطرف السابقين، قائلا إن أيديهم “ملطخة بالدماء، واليمين المتطرف يقتل”.
وتعليقا على ذلك، يرى رئيس جمعية الإرشاد الإسلامي في فرنسا مصطفى أرسلان أن ألوية الدفاع عن النفس تشكل خطرا كبيرا وقد تصل إلى حد التجاوزات التي لا يمكن السيطرة عليها، مقترحا -كبديل عن ذلك- اليقظة وضبط النفس وتنبيه السلطات على وجوب وضع المسلمين تحت الحماية.
وأشار أرسلان، في حديثه للجزيرة نت، إلى ضرورة إنشاء “صحوة وطنية” لأن وقوع هجمات مماثلة على أفراد الجالية المسلمة قد تؤدي إلى نتائج سيئة للغاية، قائلا “أتذكر الأوقات التي كانت تخرج فيها مظاهرات كبيرة مناهضة للعنصرية، ولا أعتقد أن أحدا يريد أن يتكرر ذلك مرة أخرى”.
بدوره، تطرق النائب جيروم لوغافر إلى الإجراءات المشددة التي تحدث عنها رئيس الوزراء بايرو قبل بضعة أشهر في ما يتعلق بملف المهاجرين، فضلا عن مشاركة وزير الداخلية ريتيلو في اجتماع نظمته شركة “إلنت” الإسرائيلية قبل أسابيع إذ ختم خطابه آنذاك بجملة: “انزعوا الحجاب”.
وتابع بالقول إن “الأمثلة كثيرة لكن هذه العناصر تقدم فكرة بسيطة عن المناخ السائد حاليا والمدعوم من أعلى مستويات السلطة في فرنسا، والذي يؤدي إلى أعمال وحشية غير مسبوقة”.
تلقّى أكثر من 40 طعنة وهو يُصلي.. جريمة قتل تهز بلدة لاغراند كومب جنوب #فرنسا pic.twitter.com/j1O2VYofBB
— قناة الجزيرة (@AJArabic) April 27, 2025
إعلان
مناخ للعنصرية والكراهية
ويرى مصطفى أرسلان أن الدولة الفرنسية يجب أن تتحمل مسؤوليتها وتفعل كل ما يلزم للتعامل مع الأشخاص الذين يهاجمون المسلمين باستمرار، والذين هم في أغلب الأحيان من اليمين المتطرف.
ولأن هذا النوع من الجرائم يؤثر بشكل مباشر على المسلمين في فرنسا ويزيد من عدم شعورهم بالأمان، فهم يراقبون أماكن عبادتهم بأنفسهم لأنه لا توجد مراقبة حقيقية وفعالة من قبل الدولة، ووسائل الإعلام المحلية تسهم بإخفاء هذا النوع من المعلومات والتجاوزات، وفق أرسلان.
وأضاف رئيس جمعية الإرشاد الإسلامي في فرنسا أن التصريحات التي يدلي بها السياسيون الفرنسيون -وعلى رأسهم إريك زمور ومارين لوبان وجوردان بارديلا وآخرون- زادت من الكراهية ضد المسلمين وهم مسؤولون عن ذلك، كما أنهم يجدون صعوبة حتى في نطق كلمة الإسلاموفوبيا بشكل صريح ومباشر.
وقد وصف النائب عن حزب “فرنسا الأبية” ما يحدث بأنه “أمر خطير ومثير للقلق”، قائلا “تم استهداف أشخاص عدة بسبب انتمائهم للعقيدة الإسلامية”.
ويعتبر لوغافر أن ارتفاع العنصرية في هذا البلد تغذيه وسائل الإعلام والقادة السياسيون، بعضهم في حكومة فرانسوا بايرو الحالية وآخرون في حزب التجمع الوطني الذي جعل من الانقسام العنصري شعاره.