على بعد أكثر من 1600 كيلومتر إلى الجنوب من عاصمة فيتنام هانوي، وعلى بعد كيلومترات قليلة من بحر جنوب الصين تقع مدينة “هو شي منه” التي لربما يقدرها العديد من الفيتناميين أكثر من عاصمتهم هانوي.
تعد مدينة “هو شي منه” هي الكبرى في البلاد من حيث عدد السكان، بتعداد 10 ملايين نسمة تقريبا وهي العاصمة الثقافية والمالية الحقيقية لفيتنام، وفيها تمتزج الثقافة التقليدية بسرعة مع متطلبات التحضر. هنا تجد المعابد المزخرفة والأضرحة القديمة والأزقة التاريخية، تصطف جنبًا إلى جنب في وئام بجوار ناطحات السحاب الشاهقة ومراكز التسوق الحديثة.
يغلب على المدينة النمط العمراني الفرنسي بحكم خضوعها للاستعمار لفترة ليست قليلة، ويظهر ذلك جليا في تصميم مبنى البريد التاريخي في المدينة بهيكله المعدني الرقيق الذي يعود بناؤه إلى عام 1891 إبان الحكم الفرنسي من تصميم غوستاف إيفل مصمم برج إيفل الشهير في قلب العاصمة الفرنسية، مما يمنح المدينة لقب “باريس الشرق الأقصى”.

ولكن على النقيض من جغرافيا المدينة التي تحتضن تاريخها المتناقض في سلام عجيب، يتحد سكانها جميعا حول مظاهر الاحتفال والبهجة العارمة في لحظة واحدة بعينها: الثلاثين من أبريل/نيسان الماضي الذي يوافق هذا العام خمسينية نهاية الحرب الأميركية على فيتنام التي استعاد الفيتناميون بعدها وحدتهم وأراضيهم بعد نصر تاريخي على الجيش الأميركي، الأكثر قوة وبطشا على وجه الأرض.
كانت هو شي منه هي عاصمة فيتنام الجنوبية الموالية للولايات المتحدة في ذلك الوقت، وكان دخول الثوار إليها في أبريل/نيسان عام 1975 هو النهاية الرسمية للحرب، غير أن المدينة لم تكن تعرف وقتها بذلك الاسم، بل كان يطلق عليها اسم سايغون، ولمعرفة السر وراء تغيير اسمها، علينا العودة بالتاريخ إلى الوراء، تحديدًا إلى مؤتمر جنيف الذي عقد عام 1954 لتسوية شروط هزيمة فرنسا في فيتنام، حينذاك فرضت الولايات المتحدة تقسيم فيتنام إلى شطرين، واشترطت تأسيس حكومة غير شيوعية (موالية لها) في الجنوب الفيتنامي تكون عاصمتها سايغون، في حين بقيت الحكومة الشيوعية في الشمال واتخذت من مدينة هانوي عاصمة لها.
ومن هانوي، شق ثوار الفيت كونغ الشيوعيون طريق “هو شي منه”، وهو الاسم الحربي لطريق مموه كان عبارة عن ممر صغير حفر بشق الأنفس وسط غابات لاوس وكمبوديا المطيرة ليربط بين فيتنام الشمالية والجنوبية، ومن خلاله تدفق مقاتلو جبهة التحرير الشيوعيون لمحاربة الأميركيين في فيتنام الجنوبية، ومباغتتهم مثل الأشباح.

مُنح هذا الطريق اسمه تيمنًا بالزعيم الأسطوري الذي قاد نضال الشعب الفيتنامي ضد اثنتين من أعتى القوى الاستعمارية في العالم هما فرنسا والولايات المتحدة وتمكن من هزيمتهما. وعلى ذلك كان سقوط مدينة سايغون في يد ثوار الفيت كونغ الشيوعيين والطريق الحربي التاريخي الذي مهد لذلك النصر هو الذي منح المدينة اسمها الحالي، “هو شي منه”، تخليدًا لذكرى القائد العظيم الذي أصبح رمزًا للمقاومة الفيتنامية وملهما لحركات المقاومة ضد الاستعمار في العالم.
إعلان
“نغوين”.. الزعيم الغامض
يصف كثيرون شخصيته بالغموض، وربما يرجع ذلك إلى أن سيرته الذاتية وقصة صعوده إلى السلطة لم توثق بشكلٍ كامل في المراجع والكتب، حتى إن بعض الكتاب قد ذهبوا بعيدًا إلى حد التكهن بوجود رجلين مختلفين يحملان الاسم ذاته “هو شي منه”، وذلك حتى قامت صحيفة فرنسية باستبعاد هذه الفكرة عند طريق مقارنة الصور التي التقطت له طوال حياته.
يعزو الكاتب ألدين وايتمان، في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في سبتمبر/أيلول عام 1969، سر هذا الالتباس في شخصية القائد الفيتنامي الكبير إلى حقيقة أنه عُرف على مدار حياته بأسماء مختلفة، فقد كان له اثنا عشر اسمًا مستعارًا، لم يكن “هو شي منه” سوى واحد منها.
وعلى الرغم من ترجيح كثير من المصادر أن الاسم الذي عرف به خلال فترة إقامته في باريس وموسكو، “نغوين آي كوك” الذي يعني بالعربية (نغوين الوطني)، كان اسمه الحقيقي. لكن ويلفريد بورشيت قام بدحض هذه السردية، وهو مراسل أسترالي جمعته علاقة جيدة مع القائد الفيتنامي، قائلًا إن هذا الاسم لم يكن سوى اسم مستعار آخر، في حين أن اسم ميلاد هو شي منه كان “نغوين تات ثانه”، ونغوين هو اسم العائلة (وهو اسم فيتنامي شهير مستمد من اسم آخر سلالة ملكية في فيتنام)، ولقب “تات ثانه” يعني “الرجل المنتصر”.
نحن نتحدث عن قائد تاريخي يبدأ الغموض من اسمه، لكنه لا يتوقف عند هذا الحد بل يصل إلى تاريخ ميلاده، ففي الوقت الذي ذكرت فيه بعض المصادر المعتبرة أن ميلاد هو شي منه كان في شهر يوليو/تموز عام 1892، يجادل وايتمان بأن التاريخ الأكثر موثوقية بحسب أغلب الأدلة هو مايو/أيار من عام 1890.
وبغض النظر عن الاسم وتاريخ المولد، فالمؤكد أن هو شي منه ولد ابنا ثالثا لأسرة فقيرة لا يختلف حالها عن كثير من مزارعي الأرز الفيتناميين، في قرية كيم ليان بمقاطعة “أنام” وهو الاسم الذي عرفت به مساحة من وسط فيتنام الحالية إبان الاستعمار الفرنسي.
إعلان
غير أن الفيتناميين كانوا يكرهون هذا الاسم وغيره من الأسماء التي أطلقها الفرنسيون ورفضوا استخدامه لوصف بلادهم، ولم يكن والد هو شي منه استثناء من ذلك، فقد كان عدوًّا لدودًا للاستعمار الفرنسي، حتى إنه رفض تعلم الفرنسية لكونها لغة غزاة بلاده، وكان عضوًا نشطًا في حركات المقاومة الفيتنامية، في وقت كانت تعج فيه هذه المقاطعة بالجمعيات السرية لمناهضة الاستعمار، لذلك لم يكن مستغربا أن هو شي منه خطا أولى خطواته الثورية وهو طفل صغير، كرسول بين والده ورفاق المقاومة.

انخرط هوشي منّه في المسار التعليمي المتاح في مدينته ذلك الوقت، ولما اشتد عوده غادر مسقط رأسه مدفوعًا بشغف مناهضة الاستعمار من الخارج، وقد كان ذلك فكرًا منتشرًا بين الثوار الآسيويين في تلك الفترة، وبحلول عام 1911 عمل هوشي منّه طباخًا على متن سفينة فرنسية لمدة ثلاث سنوات وتنقل بين موانئ مارسيليا وأفريقيا وأميركا الشمالية، وخلال رحلاته نمت ثقافته عن طريق التعليم الذاتي وقراءة الكتب، فكان شغوفًا بمسرحيات شكسبير وروايات تولستوي والأهم بكتابات الفيلسوف والمفكر الألماني الشهير كارل ماركس، فكانت سنوات البحر هي التي أثرت شخصيته ليصبح ثائرا قوميا وشيوعيا.
بعد ذلك انتقل إلى مدينة لندن، حيث عمل هناك في مِهن شاقة متواضعة كسب من خلالها قوت يومه، فكان بستانيا حينًا وجارفا للثلوج حينا آخر، وعمل مساعد طاهٍ وعامل نظافة ونادلا في أحايين أخرى، إلا أن اهتمامه بالسياسة كان مسيطرًا على تفكيره حتى إنه انضم إلى رابطة العمال الأجانب ضمن كثير من الآسيويين، وناضل إلى جانب المناضلين من أجل استقلال أيرلندا عن بريطانيا.
لاحقا، وبدافع من فضوله العميق سافر هو شي منه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من قلة المعلومات التي تناولتها المصادر عن فترة وجوده هناك، فإنه كان مولعًا بالحديث بين أصدقائه عما رآه من “وحشية الرأسمالية الأميركية” والممارسات العنصرية ضد السود الذين أعدموا في ذلك الوقت دون محاكمة، فكانت هذه المشاهدات هي ما حثه على إصدار كتيب عام 1924 أثناء إقامته في موسكو، بعنوان “العرق الأسود”، هاجم فيه الممارسات العنصرية في أميركا وأوروبا.
إعلان
تردد هو شي منه على فرنسا خلال فترات مختلفة من حياته، فقد عاش في شقة متواضعة في باريس فيما بين 1917 و1923، وكانت تلك هي الفترة التي بدأ فيها مشوار نضاله، حيث وجه التماسا للمشاركة في مؤتمر فرساي للسلام عام 1919 بوصفه متحدثًا رسميًّا باسم وطنه الأم، إلا أن فشل مؤتمر فرساي في تسوية القضايا الاستعمارية دفعه إلى الانضمام إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي وشارك في تنظيم الفيتناميين المقيمين هناك، وتذكر السرديات التاريخية أن أول خطاب مسجل له في الحزب عام 1920، وكان الخطاب نداءً عامًّا للوقوف “في وجه الإمبرياليين الذين ارتكبوا جرائم شنيعة” في وطنه الأمّ، وقد استمر عمله في الحزب حتى انشق الشيوعيون الفرنسيون عن الحزب الاشتراكي في العام نفسه، فانضم لهم هو شي منه ليصبح من الأعضاء المؤسسين في الحزب الشيوعي الفرنسي.
كانت هذه هي الفترة التي اكتسب فيها هو شي منه خبرة حقيقية ضمن الحركة الاشتراكية الأوروبية أهلته فيما بعد للانضمام عام 1920 إلى “الأممية الشيوعية الثالثة” (الكومنترن)، وهي منظمة دولية تأسست عام 1919، وعقد مؤتمرها الدولي الأول في موسكو وألقى فيه الزعيم السوفياتي فلاديمير لينين خطاب تأسيسها، وقد ضمت هذه المنظمة بين جنباتها الأحزاب الشيوعية الثورية من كل أنحاء العالم.

“نغوين”.. الوطني الكاره لفرنسا
زار هو شي منه موسكو لأول مرة عام 1922، وذلك لأجل حضور المؤتمر العالمي الرابع للأممية الشيوعية، وفي فترة وجيزة أصبح من أنشط منظمي مكتبها في جنوب شرق آسيا، وقد كان انضمامه للأممية الشيوعية نقطة التحول الرئيسية في مشوار نضاله ضد الاحتلال الفرنسي معتنقا الأيديولوجية الماركسية اللينينية المناهضة للاستعمار.
دفعه ذلك في عام 1925 للتعاون مع الزعيم الوطني الجزائري “مصالي الحاج” لإصدار مجلة “لو باريا” (Le Paria) وتعني بالعربية “المنبوذ”، فكانت هذه المجلة بمثابة منبر للمقاومة الموحدة ضد فرنسا في المغرب العربي ودول الهند الصينية، وقد وقع هو شي منه مقالاته في هذه المجلة باسم مستعار جديد هو “نغوين أو فاب” أي (نغوين الكاره لفرنسا).
إعلان
في ذلك الوقت من التاريخ، كان الثوار من شعوب الهند الصينية، وهو اسم يطلق على أبناء دول لاوس وكمبوديا وفيتنام، قد جمعتهم صداقة النضال وأخوة السلاح، وكان معظمهم أعضاء في جمعيات سرية داخل وطنهم الأم، عن ذلك تقول الكاتبة والصحفية الألمانية روث فيشر في مقالة نشرتها بمجلة “فورين أفيرز” في أكتوبر/تشرين الأول عام 1954، إن هو شي منه كان عضوا داخل إحدى هذه الجمعيات السرية، وربما اختار هناك اسمه المستعار الذي عرف به في دوائر الكومنترن الشيوعية في موسكو، نغوين آي كوك، الذي يعني “نغوين الوطني”.
وعن تلك الحقبة، يقول الكاتب ألدين وايتمان إن انجذاب هو شي منه إلى الشيوعية ربما جاء في المقام الأول من منظور قومي، حيث كان استقلال فيتنام ومناهضة الفرنسيين هو شغله الشاغل والمهمة الأساسية التي أخذها على عاتقه، وينقل في مقال له قول هو شي منه إنه “لا يفهم المصطلحات الشيوعية المعقدة”، لكنه يعرف جيدا أن الأممية الشيوعية الثالثة كانت معنية بمناهضة القوى الإمبريالية حول العالم ومساندة الشعوب المقهورة، ولهذا وصفه وايتمان بأنه “الرجل الذي استطاع مزج القومية مع الشيوعية”.
غير أن سيرة هو شي منه العملية ربما تشي بغير ذلك، فعلى مدار رحلة حياته فضل هو شي منه تقديم نفسه للعالم بوصفه زعيمًا قوميًّا فيتناميًّا أكثر من كونه شيوعيًّا، فكان انتماؤه القومي هو الغالب عليه ولعل ذلك هو ما ساعده على النجاة من الاختبارات العاصفة التي اجتاحت الحركات الشيوعية في العالم.
وقع أهم هذه الاختبارات وأكثرها صعوبة في الثلاثينيات حين وقع الخلاف الكبير بين جوزيف ستالين ومعارضيه بزعامة ليون تروتسكي، الذي دعا الشيوعيين من منفاه إلى الانفصال عن المكتب السياسي للحزب الخاضع لستالين في موسكو.
ورغم تعاطف هوتشي منه مع معارضي القبضة الستالينية الحديدية فإنه آثر النأي بنفسه عن الخلافات التي دبت في أروقة الأممية الشيوعية الحديثة العهد، فلم يلبّ نداء تروتسكي الذي اعتبره غير عملي نظرًا إلى المساعدة التي كانت تقدمها موسكو للأحزاب الشيوعية الناشئة.
إعلان
فكانت تلك هي العاصفة الأولى التي تمكن تشي منّه من اجتيازها بهدوء ودهاء سياسي، ليكون من بين الناجين القلائل من “سنوات التطهير الكبير” بين عامي 1936 و1938، التي استهدف فيها ستالين رفاقه القدامى في الحزب قبل معارضيه ليثبت أقدامه في الحكم لعقود تالية.
تلا ذلك أيضًا بعض السنوات العاصفة التي قدمت رياحها من اتجاه مغاير، حيث قامت اليابان باحتلال شبه جزيرة الهند الصينية مطلع الأربعينيات بهدف إحكام الحصار على الصين خلال الحرب المشتعلة بين البلدين آنذاك.
ولكن مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها رأى شيانغ كاي شيك، الزعيم الصيني آنذاك، الفرصة سانحة لدمج الهند الصينية في مناطق نفوذه مع الهزيمة الوشيكة لليابان في الحرب، ووسط ذلك الصراع المحتدم، بدأت فرنسا تخشى من فقدان نفوذها وسيطرتها في منطقة الهند الصينية بغير رجعة.

خلال تلك الحقبة، استغل هو شي منه الصراع بين القوى الاستعمارية بحنكة ودهاء. ففي أعقاب الهجوم المباغت الذي قامت به قوات الإمبراطورية اليابانية على الأسطول الأميركي في “بيرل هاربور” عام 1941، استخدم تشي منه مواهبه الدبلوماسية في التواصل مع القائد القومي الصيني شيانغ كاي شيك، كما استغل توتر العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان وأقام جسور علاقات مع الولايات المتحدة قائلًا عن نفسه: “كنت شيوعيًّا لكنني لم أعد كذلك، أنا مجرد فرد في العائلة الفيتنامية”.
وفي عام 1942 وأثناء توجه هو شي منه إلى مدينة كونمينغ الصينية في محاولاته لكسب الحلفاء خلال مواجهاته مع اليابانيين، اعتقله رجال كاي شيك بدعوى الاشتباه في كونه جاسوسًا فرنسيًّا نتيجة الاسم الحركي الذي كان يستخدمه، إلا أن الدافع الأعمق كان توجس كاي شيك منه نظرًا لماضيه الشيوعي.
إعلان
قضى الزعيم الفيتنامي أربعة عشر شهرًا متنقلا بين السجون الصينية من يوليو/تموز 1942 وحتى سبتمبر/أيلول 1943، ووفقًا للكاتب ألدين وايتمان فقد أطلق سراحه حينذاك بناءً على طلب أميركي، وخلال تلك الفترة واظب تشي منه على كتابة يومياته باللغة الصينية التي كان يتقنها بطلاقة إلى جانب الإنجليزية والفرنسية ولغات عدة، وقد نشرت هذه اليوميات في شكل قصائد وأبيات شعرية تروي معاناته ويومياته في السجن وشوقه القاتل إلى وطنه، كتب في إحداها: “قلبي يسافر ألف ميل نحو وطني الأم، وحلمي يتشابك بالحزن كخيوط ألف مغزل، مضى عام كامل وأنا بريء في عتمة السجن الثقيلة”.
بعد إطلاق سراحه، بدأ نوع من التعاون البراغماتي ينشأ بين هو شي منه وشيانغ كاي شيك، حيث قاما برعاية اتحاد لشعوب الهند الصينية لمواجهة الاستعمار الياباني، اعتبراه مصلحة مشتركة تجمعهما، وقد استفادت قوات شي منه من هذا الاتحاد على الأرض وطورت قدرتها على العمل سرًّا في المناطق التي سيطر عليها اليابانيون، وعندما تم تطهير شريط حدودي صغير داخل الهند الصينية من القوات اليابانية نتيجة لهذه الجهود، استغل الزعيم الفيتنامي ذلك متخذًا هذه المنطقة نواةً لإقامة دولته الشيوعية المستقلة.
ولموازنة تحالف المصالح بينه وبين الصين، تعاون الزعيم الفيتنامي كذلك مع رئيس البعثة العسكرية الفرنسية جان سانتيني عام 1945، وذلك للوقوف في وجه طموح شيانغ كاي شيك ومطامعه، وهي الفترة التي قام فيها الزعيم الفيتنامي بوضع قوميته أولًا قبل انتمائه الشيوعي، فعمد إلى طمس تاريخه الأيديولوجي لتسهيل مهمته مع سانتيني، عن طريق تغيير اسمه متخذًا “هو شي منه” اسمًا مستعارًا جديدًا ومعناه “الرجل الذي بلغ التنوير الكامل”، وهو الاسم الذي أصبح يعرف به حتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من أنه لم يتلق من حلفائه هؤلاء جميعهم سوى القليل من المساعدة المادية، فإن تلك الفترة أكسبته مكانة سياسية وشعبية كبيرة؛ حيث استطاع استقطاب العديد من الجماعات القومية الناشئة في الهند الصينية، فكانت تلك هي الفترة التي تأسست فيها رابطة المنظمات الثورية في فيتنام عام 1942 التي عرفت اختصارًا باسم “فيت منّه”، وساهمت بشكل كبير في مناهضة الاستعمار الياباني، كما نجحت في الوقوف في وجه فرنسا عندما حاولت العودة لاحتلال الهند الصينية بعد الحرب العالمية الثانية، وفي نهاية المطاف، كانت هذه الرابطة هي التي وقفت في وجه الاحتلال الأميركي.
إعلان
كانت تلك أيضا هي الفترة التي دعا فيها هو شي منه إلى التعبئة الشاملة في الهند الصينية، واستطاع الفيتناميون آنذاك حشد قوة مسلحة للمشاركة في حرب العصابات ضد اليابانيين قوامها 10 آلاف مقاتل، وعرفوا حينذاك بـ”الرجال الذين يرتدون السواد”، فكانوا يخرجون في الظلام من الغابات والأدغال لـ”اصطياد اليابانيين” ثم العودة إلى مواقعهم بهدوء.
وبحلول منتصف الأربعينيات، شعر الفرنسيون بقدر من عدم الأمان أثناء وجودهم تحت الإدارة اليابانية، ولإنقاذ أنفسهم من الاضطهاد الياباني اضطر الفرنسيون إلى أن يحاربوا جنبًا إلى جنب مع هو شي منه والثوار الفيتناميين عام 1945 لإخراج اليابانيين من الهند الصينية.
ومع استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية في أغسطس/آب 1945، انتهز الثوار الفيتناميون الفرصة وهاجموا هانوي عاصمة البلاد مرغمين الإمبراطور باو داي (آخر أباطرة سلاسة نغوين) على التخلي عن العرش، ثم رفعوا العلم الشيوعي الأحمر فوق القصر الإمبراطوري.
عند تلك اللحظة، أعلن هو شي منه استقلال فيتنام في خطابٍ مقتبس من “إعلان الاستقلال الأميركي”، وهي عادة جرت بين كثير من الدول التي نالت استقلالها في القرن العشرين.
وبهذا الإعلان أصبح هو شي منه رئيسًا لجمهورية فيتنام الديمقراطية، التي اعترف بها الفرنسيون عام 1946، وأُعلنت فيتنام دولة حرة لها حكومتها وجيشها وبرلمانها، لكنها في الوقت ذاته اعتبرت جزءًا من اتحاد دول الهند الصينية التابع للإدارة الفرنسية. وكان ذلك ضربة قاصمة لفرحة الثوار الفيتناميين بما حققوه من نصر، خاصة مع تزايد طموح الفرنسيين لاستعادة مستعمرتهم الفيتنامية القديمة.
وفي الوقت الذي كان فيه هو شي منه يشغل منصبه الرسمي رئيسًا للبلاد اضطر إلى أن يعود مجددًا زعيمًا سريًّا لقوات المقاومة الشعبية ويخوض مع شعبه حرب عصابات عرفت باسم “حرب الهند الصينية الأولى” التي بدأت عام 1946، ولم يتلق فيها شي منه إلا القدر الضئيل من المساعدة من المعسكر الشيوعي سواء في موسكو أو في بكين لاحقا (بعد استيلاء ماو تسي تونغ ورفاقه على الحكم في الصين عام 1949)، وقد عانت قواته من سوء التغذية ونقص الإمدادات الطبية ونقص التسليح، ولكن على الرغم من ذلك انتهت هذه الحرب بانتصار ساحق للثوار الفيتناميين بعد معركة “ديان بيان فو” عام 1954 التي ختمت 8 سنوات من الحرب بين الثوار الفيتناميين “الفيت منّه” والقوات الفرنسية.
في مواجهة أميركا
بدأ التورط الأميركي في فيتنام من خلال دعم القوات الفرنسية خلال معركة “ديان بيان فو” وما قبلها خلال وقائع حرب الهند الصينية الأولى، لكنه اتخذ شكلا أكثر وضوحا بعد انتصار قوات “الفيت منّه” (رابطة تحرير فيتنام)، حيث خشيت واشنطن قيام دولة شيوعية مناهضة للغرب فوق أراضي فيتنام الموحدة، لذلك فإنها فرضت تقسيم فيتنام إلى شطرين، فيتنام الجنوبية وعاصمتها سايغون (الموالية للولايات المتحدة)، وفيتنام الشمالية (الشيوعية) وعاصمتها هانوي بقيادة هو شي منه، وشرعت واشنطن على الفور في مساعيها لتقويض الحكم في الشمال ضمن وقائع الحرب الباردة.
إعلان
يسرد المؤرخ الكندي المتخصص في الدراسات الدولية أندرو بريستون، أسباب هذه الحرب الأميركية في كتابه “مقدمة مختصرة في العلاقات الخارجية الأميركية”، قائلًا إنه في اللحظة التي تشكلت فيها معالم الصراع الجديد بين طرفي الحرب الباردة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، اندلع أكثر الصراعات الدموية في فيتنام، وهو ما عُدّ نتيجة مباشرة لهذا الصراع المتأجج بين القوتين العظميين، وذلك لأن قرار البلدين تجنب خوض مواجهة مباشرة لم يكن إلا وسيلة لإدارة التوترات وليس إخمادها؛ وساعتها كانت حرب فيتنام كأنها بديل لتفريغ طاقة الحرب لدى القوتين دون المخاطرة باندلاع حرب نووية تصل آثارها المدمرة إلى كل دول العالم.
أما السبب الثاني للتدخل الأميركي فيتنام وفقًا لبريستون، فكان وقف التمدد الشيوعي إلى مناطق نفوذ الولايات المتحدة في آسيا، الذي كان مرتبطا ارتباطًا وثيقًا باحتواء الصينيين الشيوعيين الذين اعتبرتهم واشنطن لا يقلون خطرا عن غيرهم من الشيوعيين؛ فكانت فيتنام أحد الأماكن التي تواجهت فيها بكين مع واشنطن.
وفي البداية، كان التدخل الأميركي منصبًّا على تقديم الدعم المالي والعسكري وتوفير المستشارين للحكومة الموالية لواشنطن في فيتنام الجنوبية بقيادة “نغو دينه ديم” لكن جذوة المقاومة المتقدة القادمة من الشماليين الذين بدوا عازمين على استعادة فيتنام الموحدة والمستقلة أجبرت الأميركيين على تغيير خططهم والتدخل مباشرة في الحرب.
قاد هذه الحرب الجنرال الأميركي وليام ويستمورلاند من مدينة سايغون بصحبة وزير الدفاع الأميركي روبرت ماكنامارا، وكانت إستراتيجيته تعتمد بشكل كبير على استعراض القدرات العسكرية المتقدمة والتفوق التكنولوجي الساحق للولايات المتحدة بما يشمل القصف الجوي الوحشي لكلّ من فيتنام الشمالية والجنوبية، وتشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة أسقطت حمولة من القنابل على فيتنام تفوق أضعاف ما أسقطته جميع الأطراف المتحاربة في الحرب العالمية الثانية، بل إنها أسقطت على حليفتها الجنوبية (أثناء مطاردة الثوار) عددا من القنابل يفوق ما أسقطته على فيتنام الشمالية.
إعلان
وعلى الرغم من كل هذا التفوق التكنولوجي والقصف الجوي المجنون، استطاع ثوار “الفيت كونغ” بقيادة العجوز هو شي منه استخدام الأنفاق على نطاق واسع سلاحًا فعّالًا في بيئة جوف أرضية لم تصل إليها الآلة العسكرية الأميركية بعد، فتمكنوا عن طريق الأنفاق من نصب الكمائن لجنود الجيش الأميركي دون أن يتأثر المقاتلون بالهجمات الجوية، وهي الممرات التي امتدت على مسافة آلاف الأقدام وكانت لها مداخل صغيرة مموهة استُخدمت ملاجئ ومواقع للقتال.
كما زودت الأنفاق الفيتنامية مقاتلي الفيت كونغ بمساحة للتصنيع وإعادة الإمدادات، وذلك على مسافة قريبة من أعدائهم الأميركيين، الأمر الذي دفع واشنطن إلى تشكيل فرقة كاملة من القوات الأميركية تعرف باسم “فئران الأنفاق”، كان أغلبهم من قصار القامة ولهم خصائص بدنية محددة تمكنهم من الزحف ساعات داخل الأنفاق في محاولات فاشلة للبحث عن المقاتلين الفيتناميين، وذلك بحسب ما جاء في تقرير المتحف الوطني للجيش الأميركي.
وفي ليلة 31 يناير/كانون الثاني 1968، وبينما كان الفيتناميون يستعدون للاحتفال بعيد رأس السنة القمرية “تيت نوين دان” المعروف اختصارا باسم التيت، بثت الإذاعة الرسمية في مدينة هانوي قصيدة كتبها رئيس فيتنام الشمالية “هو شي منه”، قال فيها: “ربيعنا اليوم أحلى من كل ربيع، ليقلّد الشمال والجنوب بعضهم بقتال الغزاة الأميركيين.. تقدموا! سننتصر!”.
كانت تلك القصيدة عبارة عن رسالة مشفرة، وجهها هو شي منه إلى ثوار الفيت كونغ الشيوعيين، ليحثهم على بداية الهجوم الذي اندلع في عشر مدن جنوبية بالتوازي، ووصل إلى عاصمة الجنوب الفيتنامي سايغون واقتحم الثوار مقر السفارة الأميركية، فيما عرف باسم “هجوم التيت” الذي استمر شهرًا كاملًا واستهدف تقريبًا كل مدن وولايات فيتنام الجنوبية.
خلال هذا الهجوم عبر إلى فيتنام الجنوبية من “طريق هو شي منه” قرابة 80 ألف مقاتل، قُتل أكثر من نصفهم خلال هذا الهجوم الذي تسبب في مقتل آلاف الجنود من الأميركيين وقوات فيتنام الجنوبية.
إعلان
اعتبر “هجوم التيت” لحظة فارقة في تاريخ فيتنام، إذ سطر بداية النهاية لحرب فيتنام، التي قاد مقاومتها هو شي منه بنفسه قبل أن يلقى حتفه عام 1969، فلم يمنحه القدر الفرصة ليشهد وقائع هزيمة الولايات المتحدة واتحاد فيتنام الجنوبية والشمالية في دولة مستقلة بعد سبعة أعوام من ذلك الهجوم.
بيد أن الزعيم الفيتنامي عاش طوال حياته واثقًا من النصر، ففي عام 1962، قابل هو شي منه زائرا فرنسيا وأثناء مناقشته لمسألة تحرر فيتنام من الاحتلال الأميركي، قال له القائد العجوز: “استغرق الأمر منا ثماني سنوات من القتال المرير حتى نهزمكم أيها الفرنسيون، وأنتم تعرفون بلادنا جيدًا، والأميركيون أقوى بكثير إلا أنهم يعرفوننا بشكلٍ أقل، لذا قد يستغرق الأمر منا عشر سنوات، لكن مواطنينا الأبطال سيتمكنون من هزيمتهم في النهاية”.
وبالفعل في أعقاب “هجوم التيت” عام 1968، أدركت الإدارة الأميركية أن الحرب الفيتنامية وصلت إلى نهايتها، حيث أظهرت أحداث أعياد الميلاد حالة الشلل القتالي المذلّ الذي عانى منه الجنود الأميركيون، وأدى ارتفاع أعداد الضحايا من الأميركيين والمدنيين الفيتناميين إلى تقوية التيار المناهض للحرب في واشنطن، فظهرت حركة “مناهضة الحرب في فيتنام” التي اعتبرت من أكبر حركات مناهضة الحرب في التاريخ، وانضم إليها الملايين الذين نظموا التظاهرات الحاشدة في شوارع العاصمة الأميركية، الأمر الذي اضطر الرئيس الأميركي ليندون جونسون إلى الرضوخ وقبول الذهاب إلى طاولة المفاوضات مع ثوار الشمال الشيوعيين.
في النهاية صدق حدس هو شي منه، ففي مارس/آذار من عام 1973، خرج آخر جندي أميركي من فيتنام بموجب اتفاق السلام في 23 يناير/كانون الثاني من نفس العام، لكن انسحاب قرابة نصف مليون جندي أميركي من فيتنام لم يستطع أن ينهي الحرب، إذ حلّت القوات الفيتنامية الجنوبية مكانهم، واستمرت واشنطن في قصف شمال فيتنام ودعمت قوات الجنوب اقتصاديًّا وعسكريًّا.
إعلان
في المقابل واصل “الفيت كونغ” قتالهم من الشمال لتوحيد شطري البلاد حتى بعد وفاة قائدهم هو شي منه، وفي ربيع عام 1975 سقطت مدينة سايغون في أيدي الثوار، لتكتب بذلك نهاية الحرب التي أنفقت الولايات المتحدة عليها قرابة 168 مليار دولار (تعادل أكثر من تريليون دولار بحسابات التضخم الحالية)، وفقدت أكثر 58 ألف جندي فضلا عن إصابة أضعافهم، وهي خسائر هائلة جدا بمقاييس ذلك العصر، لكنها لا تقارن بالخسارة المعنوية والرمزية في سمعة الولايات المتحدة وجيشها الذي مُني بأثقل هزيمة وأكثرها مرارة في تاريخه الحديث.