الخرطوم – بعد أن ظل هدفا تقترب لحظة تحققه وتبتعد لسنوات، أصبح الدكتور كامل إدريس الطيب رئيسا لمجلس الوزراء، وهو شخصية أم درمانية ينتمي لهذه المدينة بكل معاني ومدلولات الانتماء، وتشرّب عبر النشأة والتعليم فيها ثقافة الوسط السوداني الذي تمثله أم درمان، التي أضحت لدى منظري السودانوية رمزا للأيقونات الجامعة للشخصية السودانية.
وله حظ وفير من التكوين الأكاديمي في مساقه القانوني تخصصا وتدريسا، وله رصيد مقدر في المعرفة بالعالم خارج بلاده، حيث عمل في الخارجية السودانية وشغل لدورتين رئاسة منظمة الملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة.
وفي مسار تطلعه لدور سياسي في بلاده ألَّف كتابا نشره عام 2015، سعى فيه إلى تقديم رؤية حول طريق السودان نحو المستقبل بعنوان “السودان 2025 تقويم المسار وحلم المستقبل”.
وقبل أن يصبح دائم الحضور على لائحة الترشح لرئاسة الوزراء في محطات تحوّل مشوبة بالاضطراب منذ الإطاحة بنظام الإنقاذ، ترشح لرئاسة الجمهورية منافسا للرئيس الأسبق عمر البشير في الانتخابات الرئاسية 2010. وعلى الرغم من وجوده الطويل خارج السودان، فإنه على تواصل مع أحداث وموضوعات ونُخب السياسة منذ أيام الرئيس جعفر النميري.
إعلان
تحديات
وعُرف بعلاقة وثيقة مع آخر زعيمين من عمالقة القادة السياسيين هما الصادق المهدي رئيس حزب الأمة وحسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية، وهو من توسَّط بينهما ونظم اللقاء الذي جمعهما في مايو/أيار 1999، وهو اللقاء الذي استوطن أدبيات السياسة السودانية بمسمى “لقاء جنيف”، كان المهدي عهدئذ معارضا والترابي رئيسا للبرلمان قبل المفاصلة الشهيرة بين الإسلاميين، وانتهى باتفاق جنيف بين الزعيمين، الذي يرى كثيرون أن من شأنه تغيير وجه السودان إن قُدر له التنفيذ.
واليوم يتولى كامل إدريس رئاسة الوزراء في أعقَد ظروف السودان وأكثر أيامه عتمة، فالبلاد تعيش حربا شرسة منذ أكثر من سنتين لم تعهد مثيلها من قبل انتهت بتدميرها، وأنتجت سياقا سياسيا واجتماعيا معقدا، وامتدت تداعياتها وتشابكت مؤثراتها إلى الإقليم والعالم.
ومهما كانت استعدادات إدريس المعرفية والسياسية، فإن التحديات التي تواجهه، على تعقيدها، معيار النجاح والإخفاق فيها واضح يمكن حسابه بوضوح وقياس المدى الذي حققه، وتواجهه تحديات تحتشد بأخرى.
التحدي الأهم هو مواجهة حالة السيولة الإدارية التي وسمت صورة البلاد بالفوضى منذ الأيام الأخيرة للرئيس البشير وعبر سنوات ما بعد إسقاطه، وحتى اندلاع الحرب وصولا ليوم تسلّم الدكتور كامل إدريس رئاسة الوزراء، فما يمكن أن يوصف به المشهد الإداري للاقتصاد والسياسة هو حالة من الهشاشة تقترب من الانحلال، ما أدى إلى إهدار موارد البلاد وتضعضع أوضاع الناس المعيشية مع تداعيات النزوح، واللجوء الذي طال أكثر من 25% من السكان.
التحدي الثاني هو الحالة السافرة للتدخل الخارجي الإقليمي والدولي، حسب تقدير يقارب الإجماع من كثير من القوى السياسية السودانية والمراقبين لشأن البلاد، حتى أصبحت ألعوبة لتلاطم الأجندات الخارجية واصطراع إرادات التأثير والسيطرة في مسارها ومصيرها.
إعلان
ومن أهم مفاتيح التعاطي الخارجي التي ظلت مطلوبات ضاغطة لمنظومات مثل الاتحاد الأفريقي و”إيغاد” والأمم المتحدة وعدد من الدول، هو ضرورة الواجهة المدنية المستقلة للسلطة في السودان.
اختبار عملي
ويرى كثيرون أن تولي الدكتور إدريس قيادة مجلس الوزراء من شأنه أن يستجيب لتحدي الضغط الخارجي رغم ما يكتنف ذلك من صعاب، ونهج سياسة خارجية تعمل في اتجاهين يتطلب الإمساك بخيوط التوفيق بينهما مهارات عالية، فالمطلوب من ناحية استرداد القرار وتوطين التوجهات الخارجية وفق معايير المصلحة السودانية، ومن ناحية أخرى استجابة لمعايير ومتطلبات التعاطي الذي يجنب البلاد المزيد من المواجهة، خاصة أن مستوى التدخل الخارجي بلغ الانخراط في يوميات الحرب.
ويضع ذلك على فريق صناعة السياسة الخارجية دور إدارة مخاطر من الدرجة القصوى، وأهم مؤشرات القدرة على ذلك هو درجة الاستقلالية التي تتمتع بها حكومة إدريس، ودرجة الاتساق بين مستويات السلطة في مجلسي السيادة والوزراء.
وإن أشار قرار رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بإلغاء تكليف إشراف أعضاء المجلس على الوزارات إلى النية في تحقيق شرط استقلالية مجلس الوزراء، فإن الاتساق بين مستويات السلطة ينتظر اختبارا عمليا.
والشأن الخارجي مسار زلِق تتناهى فيه الخيوط لدى البعض لدرجة التداخل في نسيج يصعب فيه فرز الألوان بين التبعية والوطنية، ولهذا فمهارة المشي فيه تحتاج حيطة وحذرا حتى لا تستحيل فرص التحرر الوطني إلى منزلقات تمكين الإرادة الخارجية.
يواجه رئيس الوزراء وفريق عمله تحديات إدارة أزمات، النجاحُ فيها مقدمة ضرورية إلى تأسيس إقلاع جديد للبلاد وتعبيد الطريق لمنطلق وطني تودّع به البلاد أزماتها ويجنبها أجندات التمزيق، ويستخلص عبرة الحرب التي خاضتها، ويقتضي ذلك تحديد البرنامج والدور بوضوح وتوافق. وهذا يستوجب حشد أكبر كتلة سياسية وطنية تستصحب مرئياتها في الرؤى والبرنامج الذي تعمل حكومة كامل إدريس على تنفيذه.
إعلان
وعلى فداحة غياب الحوار الوطني، فإن حضوره يخلق حالة من التوافق يُجنب الحكومة إهدار الطاقة في احتواء الصراع بين مكونات الكتلة المؤيدة لها. وما تكاثف التدخل الخارجي -كما يرى كثيرون- إلا من ثغرات عجز السودانيين عن إدارة حوار سياسي بين مختلف قواهم السياسية أو التباطؤ في تنزيل ما يتفقون عليه على واقع حياتهم.
تحالف “صمود” يستنكر دعم الاتحاد الإفريقي لتعيين كامل إدريس رئيسًا للوزراء في #السودان.. ما الأسباب؟#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/nQ2fJ7H5OM
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) May 22, 2025
الحذر واجب
تحدي الإجماع والتوافق الوطني ليس سياسيا محضا، بل إن الحرب أفرزت تمزقا اجتماعيا بتحشيد قوى قبلية ذات أثر كبير لمواجهة الدولة لمصلحة طموحات سلطوية لأفراد ورؤوس قبائل، ما أنتج حالة التصدع الاجتماعي الذي تئن منه البلاد، وهذا تحدٍّ يحتاج إلى جهد شعبي تديره الحكومة بوعي يُفعِّل ما أصلحت عليه اللغة السياسية المعاصرة للسودانيين برتق النسيج الاجتماعي.
وبما أن التحدي الأكبر الذي تعيشه البلاد أمني بسبب الحرب التي هددت وجودها، فإن أولوية البلاد القصوى تقوية شوكتها الدفاعية، وهو أمر تضطلع به قيادة الجيش ابتداء في وجهه العملياتي، ولكن حكومة إدريس معنية بالدفع السياسي في اتجاه تعزيز وتوكيد هذه الأولوية في خطابها السياسي وأولوياتها الاقتصادية ودفوعاتها الخارجية، بما يرفع عن البلاد مهدد الاستضعاف العسكري.
وبالطبع يتضمن ذلك المساهمة في تصميم نهايات سياسية للحرب، تحول دون تصنيع أسباب تجددها وتعزز ممسكات الوحدة الوطنية، وتنشئ توافقا على موقع الجيش في خارطة السياسة والمساحة التي يتحرك فيها، بما يحقق توازن الغايات بين الدور العسكري والمدني.
أثار تكليف الدكتور كامل إدريس للوهلة الأولى حالة من الانقسام السياسي بين مؤيد ومعارض، لكن سرعان ما ازدادت معدلات القبول، خاصة من القوى السياسية المؤيدة لما اصطُلح عليه “حرب الكرامة”، التي يخوضها الجيش في مواجهة قوات الدعم السريع.
إعلان
وعلى الرغم من دفق هذا في مصلحة إدريس، فإن من يعرف تقلبات الطقس السياسي في السودان يلزمه كثير من الحذر، فالموقف المساند ليس شيكا على بياض بل بعض دوافعه لا ترتكز على تحليل سياسي رصين، بل حالة التيه التي يُحدِث فيها كل جديد نفحة أمل، على الدكتور كامل إدريس وفريقه أن يحيلها إلى اختيار واعٍ تعززه كل يوم التقدمات في الطريق الصحيح.