لندن- في الوقت الذي تبدو العاصمة البريطانية لندن ساحة جديدة للتفاوض، يحاول أن يجد فيها الصينيون والأميركيون موطأ قدم لعقد اتفاق تجاري جديد يرأب الصدع ويضع حدا لحرب الرسوم الجمركية المستعرة منذ أسابيع، وتبدو أيضا مجالا للتنافس الحاد على النفوذ بين واشنطن وبكين.
ولا يتردد المسؤولون الأميركيون في التعبير عن تحفظهم تجاه اندفاع حكومة حزب العمال البريطانية للتقارب مع الصين، حيث لم تخف الولايات المتحدة هواجسها من السماح ببناء سفارة صينية تعد الأكبر في أوروبا في قلب العاصمة البريطانية وقريبا من مركزها المالي.
ونقلت صحيفة صنداي تايمز عن مسؤول بارز في الإدارة الأميركية تحذيره للحكومة البريطانية من مخاطر التجسس العالية وإمكانية الوصول لمعلومات استخباراتية حساسة تهدد أمن بريطانيا وحلفائها حال المضي قدما في ذلك المشروع.
وأضافت الصحيفة أن الأميركيين يتوقعون تنسيقا معهم بشأن أي قرار يتعلق بإنشاء السفارة الصينية في لندن، أخذا بعين الاعتبار لتلك المحاذير الأمنية والاستخباراتية.
الضغط الأميركي
ولم تتأخر أيضا أصوات في حزب المحافظين البريطاني في الانضمام لتلك الضغوط الأميركية، حيث قال كريس فيليب وزير الداخلية في حكومة الظل المعارضة إن مخاوف الإدارة الاميركية يجب أن تكون كافية لدفع الحكومة للتخلي عن تلك الخطوة، وإدراك خطورتها على الأمن القومي البريطاني.
إعلان
ورد بيتر كايل وزير العلوم والابتكار في حكومة حزب العمال -على ذلك الهجوم- بالتأكيد أن حكومته مدركة لحساسية تلك المخاطر وتعمل على تقييمها بشكل جدي.
وكانت حكومة المحافظين قد قررت عام 2020 -بعد ضغط أميركي أيضا- إبعاد شركة التكنولوجيا الصينية “هواوي” عن تأسيس البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس 5G بدعوى وجود محاذير أمنية، كما عدَّت الصين تهديدا طويل الأمد وخطرا بنوايا ملتبسة.
ويرى كيري براون أستاذ الدراسات الصينية في جامعة كينغز كولج البريطانية أن أميركا تعد حاليا لاعبا دوليا شديد الأنانية، تسمح لنفسها بالسعي لإبرام اتفاق مع الصين لخدمة مصالحها لكنها في المقابل تحرس اللاعبين الآخرين وتفرض رقابة عليهم، ولا تخفي استياءها إن شعرت أنهم غير موالين لسياساتها.
ويضيف -للجزيرة نت- أن إنشاء سفارة صينية ضخمة كان مثار جدل لعدة سنوات، ولكن الحكومة البريطانية تصر الآن على النظر إليها كقضية ثنائية، رغم شراكتها مع أميركا عبر تحالف “العيون الخمس” الاستخباراتي، إلا أنها تبدو في سعي دؤوب لتحسين مؤشرات اقتصادها الذي يعاني ركودا لسنوات.
التقارب الصيني
لكن الضغوط الأميركية قابلها أيضا إلحاح صيني للدفع بالمشروع، حيث أوردت صحيفة فايننشال تايمز أن الرئيس الصيني شي جين بينغ قد طلب بشكل مباشر الحسم في قرار إنشاء السفارة الضخمة لبلاده، خلال زيارة سابقة لوزيرالخارجية البريطاني ديفيد لامي إلى بكين.
في حين يستعد البريطانيون لترتيب لقاء رسمي بين الرئيس الصيني ورئيس الوزراء كير ستارمر في بكين نهاية العام الجاري، هو الأول من نوعه لمسؤول بريطاني بهذا المنصب منذ حوالي 7 سنوات.
ويرجح الأكاديمي براون أن استضافة المباحثات التجارية بالغة التعقيد بين الصين والولايات المتحدة محاولة للبحث عن استقلالية إستراتيجية تمنح لندن هامشا لرعاية مصالحها مع بكين دون إثارة غضب واشنطن، وهو توازن صعب تحاول الحكومة العمالية تدبيره بحذر.
إعلان
وبينما كان المفاوضون الصينيون يصلون إلى العاصمة لندن استعدادا للجلوس على طاولة المحادثات مع الوفد الأميركي، كانت الترتيبات جارية لعقد لقاءات أخرى تجمعهم بالمسؤولين البريطانيين وفي مقدمتهم وزيرة الخزانة راتشل ريفيرز.
حيث قال نائب رئيس مجلس الدولة الصيني قائد وفد التفاوض الصيني للمفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة، بعد لقائه وزيرة الخزانة البريطانية، إن بلاده تسعى لتعزيز التعاون التجاري وتطوير شراكتها الاقتصادية مع بريطانيا.

وعلى مدى الأشهر الماضية، لم تنقطع الزيارات بين المسؤولين الصينيين والبريطانيين، حيث تسعى الحكومة البريطانية لانتزاع اتفاق تجاري مع الصين على غرار الصفقة التي أبرمتها مع أميركا.
لكن الاتفاق الوحيد مع بريطانيا -الذي استطاع الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوقيع عليه منذ فتحه هامش التفاوض مع الدول الراغبة في تخفيف الرسوم الجمركية الأميركية- أثارت بعض تفاصيله احتجاجا صينيا.
وقال وزير الخارجية الصيني -في حديث لصحيفة فايننشال تايمز- إن أسس حرية التجارة الدولية تفرض ألا يستهدف اتفاق بين بلدين الفرص التجارية المحتملة مع بلد ثالث، في إشارة إلى بند أميركي يفرض على البريطانيين تجنب اعتماد سلاسل التوريد الصينية.
التوازن الصعب
ومنذ وصول حزب العمال للسلطة في بريطانيا الصيف الماضي، تصر قيادته على أنها تتبنى نهجا واقعيا وبراغماتيا في صياغة سياساتها الخارجية، وتحاول الابتعاد عن التصلب الإيديولوجي وعدم المفاضلة بين حلفائها وشركائها.
لكن خلال عرضها قبل أيام مراجعة خططها الدفاعية، صنفت الحكومة البريطانية الصين كتحد عسكري غير تقليدي بقدرات بالغة التعقيد تفرض على لندن مواجهته عبر إعادة هيكلة المنظومة الحربية بما يمكنها من مجاراة التطور اللافت في الترسانة العسكرية الصينية.
إعلان
ورغم تلك المحاذير، أشارت صحيفة غارديان في وقت سابق إلى أن المسؤولين البريطانيين مترددون في وضع بكين على قوائم نظام جديد -لرصد التأثير الأجنبي على سياسات لندن- سيفرض على أي جهة على علاقة بالصين الإفصاح عن صلاحياتها تلك أو مواجهة عقوبات، ويرتقب دخوله حيز التنفيذ الشهر المقبل.
وفي ظل انتقادات توجه لحزب العمال بشأن غياب إستراتيجية واضحة المعالم والرؤية لطبيعة العلاقة المعقدة مع الصين، العالقة عند أكثر من ملف والواقعة على خطوط التماس مع العلاقة مع حليف إستراتيجي كأميركا، تتوجه حكومة حزب العمال لإعلان قريب بشأن مراجعة شاملة لسياساتها تجاه بكين.
ويرى جيمس كرابثتري خبير العلاقات الصينية البريطانية بالمركز الأوروبي للسياسات الخارجية أن تبني تلك الرؤية قد طال انتظاره لرسم مسار مستقل يوازن بين الطموح الاقتصادي والمخاوف بشأن التهديدات الأمنية الصينية.
وذكر -للجزيرة نت- أن الحكومة العمالية تتعرض لضغوط كبيرة سواء من قبل بكين أو واشنطن لتغيير سياساتها لصالح إحداهما، مما يعقد مهمتها في علاقتها بكلتا القوتين العالمتين بشكل مستمر.